السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
(كامي) و(النزهة) مقارنة مونيه بمونيه
(كامي) و(النزهة) مقارنة مونيه بمونيه
لو كان كلود مونيه (1840 - 1926) رسامًا مغمورًا ووجد خبراء فن الرسم أنفسهم أمام هاتين اللوحتين اللتين نعرض لهما هنا, لما خطر ببال أحد منهم أنهما للفنان نفسه, أو حتى أنهما تنتميان إلى العصر نفسه. وعلى الرغم من أنهما فعلاً بريشة رسام واحد, والفاصل الزمني بينهما أقل من عشر سنوات, فإنهما تنتميان فعلاً إلى عصرين مختلفين.
ففي صيف 1865, أمضى كلود مونيه عدة أسابيع في غابات فونتنبلو في فرنسا مع صديقه كامي دونسيو وزميله الرسام فردريك بازي لإعداد الرسوم التحضيرية للوحته الكبيرة (غذاء على العشب). ورسم عدة (اسكتشات) تمثل السيدة كامي تمهيدًا لاستخدامها في مشروعه. وطوال خريف وشتاء تلك السنة, لم يتمكن مونيه من إنهاء لوحته كما يتمناها تمامًا للاشتراك بها في المعرض السنوي الذي تقيمه الأكاديمية الفرنسية. وتحت ضغط الوقت, وقبل أربعة أيام فقط من افتتاح المعرض, تناول مونيه خامة جديدة ليرسم (كامي) أو (السيدة ذات الثوب الأخضر).
حظيت هذه اللوحة في معرض 1866 بنجاح كبير. فالرسام الذي لم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين من عمره آنذاك, أثبت موهبة فذة تقاس عن جدارة بمواهب كبار الأساتذة في عصره من الأكاديميين.
نرى في هذه اللوحة, وبالمقاس الطبيعي تقريبًا, سيدة واقفة وكأنها تهمّ بالانصراف, ترتدي ثوبًا من ساتان الحرير الأخضر المخطط بالأسود, وسترة داكنة اللون محاطة عند أطرافها بالفرو, وذلك في مكان مغلق أو يوحي بأنه كذلك, من دون إثبات على أنه غرفة.
وإن كان تركيب اللوحة ككل ومناخها اللوني وفق المقاييس المحافظة (الرائجة) آنذاك, فإن التميّز ظهر جليا في معالجة الثوب الذي كتب عنه النقاد يقولون: (إنه فعلاً من الحرير الطبيعي.. إنه الحرير الذي تم ارتداؤه فعلاً وليس ثوب دميته..), وذهب بعضهم إلى القول إنه أكثر واقعية وصدقًا من أثواب السيدات اللواتي رسمهن أستاذ النيوكلاسيكية جان أوغست دومينيك أنجر قبل سنوات معدودة.. ووصل الأمر بآخرين إلى تشبيه الرسام الصاعد بأستاذ الكلاسيكية الإيطالية فيرونيز.
وتمر الأيام.. ويرسم مونيه في العام 1875 (النزهة,) السيدة ذات المظلة, التي لا تمت بأي صلة إلى اللوحة السابقة.
تجمع كل المصادر التي تتحدث عن مونيه على وصفه بأنه رسام الهواء الطلق, الظل والضوء, الأول في العالم الذي استعمل اللون الأبيض بمثل هذا الإفراط. والأمر صحيح, فالشهرة التاريخية التي حظي بها هذا الرسام تعود إلى لوحاته التي رسمها في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر. و(النزهة) عينة نموذجية عنها.
أول ما يلفتنا في هذه اللوحة بياض الثوب المرسوم بالألوان نفسها المستعملة لرسم السماء والغيوم, وحركته الباروكية الملتوية المتناغمة مع حركة العشب, وتناغم لون العشب مع لون المظلة. أما ظل المرأة فيبدو وكأنه يعود إلى اختلاف في نوع الأعشاب, وليس إلى كونه ظلاً, بدليل وجود بقعتين داكنتين إلى يساره ويمينه. إنها اللوحة الانطباعية بامتياز موضوعًا وتقنية وتلوينًا.
ولكن ما الذي حصل خلال تلك الأيام أو السنوات الفاصلة ما بين (كامي) و(النزهة)?
لم يؤد تشدد الأكاديمية ضد الانطباعيين ورفض لوحاتهم في المعارض الرسمية إلى تركيعهم - إذا جاز التعبير - بل إلى العكس من ذلك تماما.
فبدلاً من أن يقبل هؤلاء بالإذعان لبعض الضغوط, تابعوا (شططهم) الفني وفق ما تشتهيه نفوسهم.
وإذا كان صحيحًا أن كل الرسامين عبر التاريخ رسموا بعض المناظر في الطبيعة, فإن هذه الرسوم بقيت على أشكالها الأولية البسيطة, ولم تتحول إلى لوحات, لأن اللوحة كانت (وكان يجب أن تبقى) وليدة الاستوديو.
كان كلود مونيه أول من حمل عدة الرسم كاملة إلى الطبيعة ليرسم لوحاته كاملة هناك تحت مظلة تقي اللوحة أشعة الشمس, ساعده على ذلك اختراع حديث العهد آنذاك ألا وهو معجون الألوان الموضب في أنابيب معدنية صغيرة, بدلاً من المسحوق الذي كان يجب مزجه بالزيت, وتحضيره في الهواء الطلق قد يواجه ببعض المصاعب.
ولكن ما ساعد فعلاً مونيه والانطباعيين عمومًا على الخروج بفنهم إلى الطبيعة والهواء الطلق كان أعمق من التسهيلات التي قدمتها صناعة الألوان.
فقد تبدلت معالم الحياة اليومية في فرنسا بدءًا من سبعينيات القرن التاسع عشر عما كانت عليه حتى الستينيات. إذ انحسر التوتر السياسي والأمني في العام 1870 بعد الحرب مع بروسيا وسقوط نظام الإمبراطور نابليون الثالث. وترافق ذلك مع انفراج اقتصادي ملحوظ سمح لمعظم الانطباعيين ببعض التحسن في أحوال معيشتهم, وبالتالي بمزيد من حرية الحركة.
إلى ذلك, كانت سكك الحديد التي وضعت أسسها الأولى في خمسينيات ذلك القرن, قد نمت وتوسعت وشملت كل أرجاء فرنسا. وصار التنقل من باريس إلى شواطئ بحر المانش شمالاً أو المتوسط جنوبًا سهلاً وسريعًا وذا تكلفة محدودة, وهكذا انتشر الانطباعيون في أرجاء الطبيعة, وصولاً إلى استمتاعهم بترف دراسة الفوارق الضوئية ما بين المناطق الشمالية وشواطئ المتوسط جنوبًا.. ومن لا يأخذ بعين الاعتبار كل هذه التحولات الاجتماعية والتاريخية عند مقارنته بين هاتين اللوحتين يكون قد أهمل أمرًا مهمًا. ومن المرجح أنه لن يستوعب في هذه الحال الاختلافات الشكلية الكبيرة بينهما, لا بل يكون قد فاته جزء مهم من المسيرة التاريخية التي أثمرت الانطباعية وتفسرها.
عبود عطية
مجلة العربي الأربعاء 1 ديسمبر 2004 19/10/1425هـ / العدد 553
Bookmarks